استمعت إلى تعليقات المشاهدين على فيديوهات أطفال المولوتوف الذين أحرقوا المجمع العلمى وهم يرقصون على أطلاله ويهللون فرحاً ويعانقون بعضهم البعض، كانت الدهشة وسؤال «العيال دول جُم منين؟» هما القاسم المشترك الأعظم فى كل التعليقات. شردت للحظة وحاولت اقتناص فترة حياد ذهنى لأسأل من تساءل واندهش عندما شاهد بشراً هم من وجهة نظره ليسوا كالبشر، وأطفالاً ليسوا كالأطفال، حتى شكل الوجوه مختلف ومرعب.

هل هؤلاء ضحايا أم مجرمون؟ هل أطفال الشوارع والعشوائيات من المنتظر والمتوقع أن يفعلوا غير ذلك، وأن يعرفوا ما هى قيمة المجمع العلمى، وأن يدركوا أن ما يفعلونه جريمة؟ هل ننتظر منهم تحويل طاقة الغضب والكبت وغريزة الانتقام إلى شىء إيجابى ونحن لا نفعل إلا الفرجة عليهم واستغلال حكاياتهم فى أفلام ومسلسلات كنماذج لتسخين الدراما فقط؟ ماذا ننتظر منهم ونحن لا نتعامل معهم إلا من خلال منطق القرف والتقزز والطناش.

معظم هؤلاء بالفعل نماذج بشرية سيكوباتية عنيفة مرعبة بها بذور الإجرام، لكن السؤال المهم: ماذا فعلنا لهؤلاء؟ هل كانوا فى أجنداتنا ومنظومة تفكيرنا ونحن نلوك سيرتهم؟ كنا نكتفى بإغلاق زجاجات سياراتنا أمام باعة المناديل، ننهر من تأتى لمسح زجاجها وهى تحمل «العيل» مكفناً فى خرقة، لم نتساءل من أين أتت تلك الطفلة بذاك العيل؟! لم يستفزنا على الإطلاق مشهد البحث فى صناديق القمامة عن فتات مطابخ المستورين، لم نحرك ساكناً أمام تلاصق الأجساد المراهقة الساخنة فى عربات القطار الخاوية ليلاً أو فى أسفل الكبارى أو على نجيلة الحدائق، لم نلق بالاً إلى من يشم الكلة ويطحن الترامادول بحصيلة ما كسب فى هجير الشمس الحارقة، ماذا تنتظر ممن يسكن فى المقابر مع الجثث والجماجم والأشلاء؟

هل ستنتظر أن يمارس معك أصول الإتيكيت وآداب اللياقة؟! ماذا تنتظر من طفل ينام وسط عشرة أخوة فى حجرة ضيقة بلا مياه أو صرف وأحياناً بلا سقف أو جدران ويشاهد لقاءات الأب والأم الحميمة بعينى رأسه والكل عامل طناش متفق عليه أو ينفذون بنود معاهدة صمت غير معلنة؟! ماذا تنتظر من طفل تلطم وصارت أقذع الشتائم هى حروف العطف عنده، وصار منظر الدم النازف من مطواة أو سنجة هى بمثابة صباح الخير والسلام عليكم؟! ماذا تنتظر ممن عقابه عند الأسطى النفخ من أسفل بالكمبرسور؟! ماذا تنتظرون من هؤلاء؟

المجتمع لم يرحمه لكى يرحم الآخرين، المجتمع لم يعلمه لكى يعرف قيمة مجمع علمى أو كتاب أثرى أو حتى قيمة حياة من أصله، لم يفكر أهل التجمع الخامس ومصر الجديدة فى النهوض بمنشية ناصر، لم يفكر أهل الزمالك فى عشوائيات بولاق، لم يخطر على ذهن مهندساوى أو نصراوى أو جاردن سيتاوى أن يزور صفط اللبن أو عزبة الزبالين أو الدويقة أو عزبة الهجانة، لم يأخذه الفضول لمعرفة مقابر البساتين والتونسى والإمام الشافعى وباب الوزير والغفير والمجاورين والإمام الليثى وجبانات عين شمس وعزبة النخل وقلعة الكبش ومقابر زين العابدين، وأرض «عزيز عزت» بإمبابة وأرض مطار إمبابة، وعزبة أبوقرن بمصر القديمة وعزبة خيرالله بدار السلام، وعزبة «أبوحشيش» بجوار كوبرى القبة، وكفر قنديل بالجيزة وبطن البقر و«زرزارة» و«الزرائب» وعزبة بخيت... إلى آخره من المنسيين المهمشين الذين سقطوا من ذاكرة التاريخ والجغرافيا بل وذاكرة الإنسانية والآدمية نفسها.

هل سنظل نقول عليهم ناس «سوفاج» بيئة مابيستحموش و«ياى» مابيحطوش بارفان؟!

هل سيظل المجتمع يتفضل عليهم بمؤسسات الإصلاحيات والأحداث التى تفرخ أحياناً مجرمين وقتلة فرز تانى؟! لدينا ٢٠ مليوناً يسكنون العشوائيات، هم ضحايا نظام أجرم فى حقهم حين حرمهم من الآدمية فكرهوا المجتمع وصار كل منهم مشروع مجرم تحت الطلب، على استعداد أن يحرق مصر كلها بخمسين جنيه وليس المجمع العلمى فقط، لن يحرق مجلس الشعب فقط بل سيحرق الشعب نفسه بقرش حشيش!

هؤلاء سيظلون موجودين بيننا، والحل ليس فى لفظهم وإنما فى إعادة تأهيلهم بإدخالهم إلى عالم الآدمية بالحد الأدنى من الخدمات وتوفير حق الحياة الكريمة. هم بالفعل ديناميت ولكننا نتناسى أن الديناميت أحياناً يفجر الجبال ليشق طريق السلامة.